كفلت الشريعة الإسلامية للفرد حرية التصرف في ماله، داخل ضوابط تختلف تبعاً لنوع التصرف، ذلك أن التصرف قد يكون استعمالاً للمال، أي انتفاع المالك بما يملك واستخدامه في إشباع حاجاته، وقد يكون استغلالاً للمال، أي استخدامه في الحصول على عائد من التصرف فيه، سواء باستخدامه في الإنتاج الزراعي أو الصناعي أو الخدمي والحصول على أرباح هذا الاستغلال، أو بتأجيره والحصول على أجرة مقابل المنفعة التي يحصل عليها المستأجر، أو بغير ذلك من طرق التصرف المشروعة.
واستعمال المال في ظل فلسفة الإسلام يحدده كما يقول أستاذ الاقتصاد الإسلامي د. يوسف إبراهيم إطار من ثلاثة مبادئ هي:
- عدم إباحة الإسراف والتبذير في استعمال المال في إشباع الحاجات.
- عدم إباحة التقتير بالتقصير مع القدرة في إشباع الحاجات المشروعة.
- الاعتدال في استعمال المال، ويتحقق ذلك بمحاولة الحصول على أكبر نفع ممكن من استعمال المال في الدنيا والآخرة.
والآيات والأحاديث المقررة لهذا الإطار كثيرة، نكتفي منها بقول الله تعالى:
«والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً»، وهدف هذا الضابط تجنب ضياع المال، وتوجيهه إلى تحقيق أكبر نفع لمالكه، وحفظ المجتمع من الآثار السلبية لكل من الإسراف والتقتير.
ويتضمن إطار ممارسة حرية استغلال المال ثلاثة ضوابط هي:
الحلال والحرام
هذا الضابط مؤداه الوقوف عند ما أحلته الشريعة أو حرمته من ممارسات. ففي مزاولة الإنتاج، للمسلم أن يبحث عن أكفأ أساليب الإنتاج، بل إن ذلك تكليف فوق أنه حق له لا يرد عليه أي قيد، وفي اختيار السلع والخدمات التي ينتجها عليه أن يتجنب الخبائث التي حرمتها الشريعة، وفي ميدان التبادل على الفرد أن يتجنب أيضاً الخبائث وهذا يعني أن السلع والخدمات المحرمة الاستعمال بين المسلمين ليس من حق المسلم أن ينتجها أو يتداولها أو يستثمر فيها، أما حرمة إنتاجها والاستثمار فيها فواضحة، إذ إن إنتاجها نوع من العبث إن كان المجتمع لا يطلب هذه السلع كما هو المفروض في المجتمع المسلم، وأما حرمة تداولها فقد قررها رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن تداول وبيع ما حرم استعماله ليستعمله غير المسلمين ويستفيد المسلم بثمنه فقال: «إن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه» وتحريم الثمن يعني تحريم كل ما يتعلق بالشيء من أنشطة وعمليات اقتصادية.
لا ضرر ولا ضرار
وهذا الضابط يتمثل في تكليف الإسلام للفرد وهو بمعرض استخدام أمواله في عمليات الاستغلال المختلفة بألا يضر بغيره ضرراً مؤكداً أو ضرراً مقصوداً، إذ لا تقر الشريعة استخدام المال بطريقة توقع الضرر بالآخرين، عاملين كانوا أو مستهلكين، أو متنافسين في الميدان الإنتاجي أو غيرهم. يقول النبي صلى الله عليه وسلم «لا ضرر ولا ضرار» وقد اعتبر هذا الحديث في الإسلام أصلاً من أصول التشريع، ومن هنا جاءت حرمة اتباع سياسة الإغراق، ووجدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لحاطب بن أبي بلتعة وقد رآه يخفض أسعار الزبيب الذي يبيعه بصورة فهم منها عمر أنه يستهدف إغراق السوق من أجل السيطرة على هذه السلعة «إما أن ترفع السعر وإما أن تدخل زبيبك البيت».وعن هذا الأصل أيضاً جاءت حرمة الاحتكار والنهي عنه، ذلك أن المحتكر يستخدم أمواله في الإضرار بالناس، ويتعارض سلوكه مع هذا الأصل من أصول الشريعة.
ولا يكتفي الإسلام بمنع استخدام المال في إيقاع الضرر بالغير، وإنما يطلب من المسلم أن يسمو ويسمح باستخدام أمواله فيما يعود بالنفع على الآخرين، يقول النبي، صلى الله عليه وسلم: «لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبه في جداره» ما دام هذا الاستخدام لا يضر بالمال أو صاحبه.
وهناك أنواع من الاستغلال اعتبرتها الشريعة ضرراً مؤكداً، أي ضارة بطبعها، فليس للإنسان رأي في ذلك، مثل استغلال المال بطريق الربا أو تقديمه على سبيل الرشوة، فليس من حق صاحب المال أن يستخدمه بهذا الأسلوب الذي هو في الشريعة أكل لأموال الناس بالباطل، والله يقول: «ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون»، ويقول سبحانه: «يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين»، إذ لا يمكن أن يستقيم إيمان شخص مع أكله الربا على الإطلاق.
أولويات الإنفاق
وحرية استغلال الفرد أمواله مقيدة أيضاً بضرورة اتباع الترتيب الذي وضعته الشريعة لإشباع الحاجات، تبعاً لوجود أولويات لبعض المنتجات على بعضها الآخر، حسب في مكانتها في سلم الاحتياجات وسد الحاجات.
فهناك ضروريات لا تستقيم الحياة من دونها، وهناك حاجات تصعب الحياة وتشق في غيبتها، وهناك كماليات أو تحسينات تجمل الحياة وتطيب في ظل توفرها، واتباعاً من الفرد لهذا المنهج الذي وضعته الشريعة لا ينبغي له أن يوجه موارده وإمكاناته إلى إنتاج الكماليات أو التحسينات، إذا كان الناس بحاجة إلى الحاجيات والضروريات. وكان في مقدوره أن يقدم من المنتجات ما يفي ببعض هذه الحاجات، ولا ينبغي له أن يوجه موارده وإمكاناته إلى إنتاج الحاجيات إذا كان الناس تنقصهم الضروريات. وهذا السلوك الإنتاجي للمسلم يدخل تحت القاعدة التي تقول بتقديم الأهم على الأقل أهمية، وعلى المسلم أن يبذل جهده في التعرف إلى حاجات مجتمعه، وأن يستخدم قدراته في تلبيتها على الترتيب الذي وضعته الشريعة.
0 تعليق
اتبع التعليمات لاضافة تعليق