يقول العالم الأزهري د. محمد عبد الفضيل القوصي أستاذ العقيدة والأخلاق عضو هيئة كبار العلماء: من يدقق في أحوالنا، ويحلل سلوكياتنا وتصرفاتنا، سيجد أننا نمارس شهادة الزور على نطاق واسع في حياتنا اليومية، فالموظف الذي ينافق رئيسه ويذكر من المحاسن والسجايا ما ليس فيه طمعاً في حافز أو تطلعاً إلى ترقية يمارس شهادة الزور، والموظف الذي يغطي على أخطاء زميله وتهربه من مسؤولياته، ويوقع له في دفتر أو جهاز الحضور والانصراف، يمارس أبشع صور شهادة الزور، والموظف الذي يرى زميلاً له يقصر في واجباته، ويتطوع لتزكيته عند رئيس العمل هو في حقيقة الأمر يمارس شهادة الزور، والزوجة التي تكذب على زوجها وتنقل له صورة غير حقيقية عن سلوكيات أبنائه في غيابه هي الأخرى تمارس شهادة الزور، والطلاب الذين يكذبون على مدرسيهم وأساتذتهم ويتهربون من الواجبات الدراسية يمارسون شهادة الزور، والتاجر الذي يحلف كاذباً بأن ثمن سلعته كذا ثم يبيعها بأقل مما ذكر هو يمارس شهادة الزور، ومما يؤسف له هذا الانتشار الواسع لشهادة الزور في حياتنا على الرغم من العقوبات الإلهية الرادعة التي تنتظر كل من يتخلق بهذا الخلق السيئ، وكل من يتخلى عن الأمانة ولا يلتزم بالصدق في كل أقواله وأفعاله.
عقاب إلهي رادع
ويؤكد عضو هيئة كبار العلماء أن شهادة الزور تتنافى مع قيم الإيمان فشأن المسلم أنه صادق دائماً، يقول كلمة الحق في كل وقت وفي كل المواقف من دون خوف من أحد، ومن دون رهبة إلا من الخالق عز وجل الذي سيحاسب الإنسان عن كل ما ينطق به من قول «لا يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد»، فلو كان الإنسان صادقاً ملتزماً بالحق والعدل فسيجد الأجر والثواب من الله، وإن كان كاذباً منافقاً شاهداً على زور فسيجد العقاب الإلهي الرادع وما أقساه من عقاب.
«.. ولو على أنفسكم»
العالم الراحل محمود عاشور رحمه الله له إضاءة قيمة على هذا الموضوع مما جاء فيها: المسلم الحق يحرص على الالتزام بأخلاق دينه في كل تعاملاته وسلوكياته، والإسلام يلزم المسلم بألاّ ينطق إلا بالحق، فليس هناك مجال لتضليل القضاء وإخفاء الحقائق، وكل من يفعل ذلك هو في نظر الإسلام آثم ويستحق العقاب الدنيوي، فضلاً عن العقاب الأخروي الذي ينتظره، لأنه مارس رذيلة من أقبح الرذائل التي شاعت بين كثير من المسلمين وأدت إلى إلحاق الظلم بكثير من الناس، وإلى هروب كثير من المخطئين والمتجاوزين من العدالة، وهذا ظلم لا يقره دين الإسلام بأي حال من الأحوال.
ويؤكد الشيخ عاشور رحمه الله، ضرورة مواجهة هذا الخلق السيئ الذي تفشى بين الناس، ويقول: يجب على علماء ودعاة الإسلام توجيه الناس إلى خطورة هذا الظلم البيّن وذلك عن طريق توضيح حرص الإسلام على شهادة الحق وتحذيرهم من شهادة الزور، فالله سبحانه أمرنا بالالتزام بالحق والعدل في كل أقوالنا وأفعالنا، وبأن نؤدي الشهادة لله ابتغاء مرضاته لنقيم بها ميزان الحق في دنيا الناس، وحتى لو كانت شهادة المسلم على نفسه أو والديه، أو على أحد أقاربه، فعليه أن يشهدها خالصة لوجه الله، ولا يخشى في سبيل الحق لومة لائم، ولا يرهب بأس إنسان قوي، فيمتنع عن قول الحق، ولا يدفعه العطف على إنسان فقير إلى أن يكف عن قول الحق، فالله أولى به وهو سبحانه القائل: «يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً».
أكبر الكبائر
وعن حكم الشرع في شاهد الزور يقول رحمه الله: شهادة الزور من أكبر الكبائر وأقبح الجرائم، فشاهد الزور ظالم يقف في طريق العدالة، ويحرم إنساناً من أن يأخذ حقه أو يلحق الأذى بآخر من دون وجه حق، ومثل هذا الشاهد عقابه عند الله شديد، فهو لم يستجب للنداء الإلهي «فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور»، كما أنه لم يتعظ ويرتدع بما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم من تحذير واضح من هذا السلوك السيئ فقد كان صلوات الله وسلامه عليه ينبه ويحذر من أكبر الكبائر وهو متكئ، وعندما جاء الحديث عن شهادة الزور اعتدل جالساً تأكيداً لحرمتها وبشاعتها وزيادة في التنبيه والتوجيه، بل ظل يكرر التنبيه والتحذير منها لدرجة أن أصحابه أشفقوا عليه خشية إزعاجه، وهذا هو قول رسول الله: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس وقال: ألا وقول الزور، فمازال يكررها حتى قلنا ليته سكت».
فهذا هو الله ورسوله من شهادة الزور وذاك العقاب الرادع الذي ينتظر من يتورط في هذه الرذيلة، وها نحن نجني في الدنيا بعض عقاب الخالق الرادع لكل من يتورط في شهادة زور، ونجني عواقب هذا السلوك السيئ قتلى ومصابين وأضراراً ومفاسد كثيرة، وضياعاً للحقوق، وتلبيساً على الحكم والقضاء، وفيها ظلم صارخ للأبرياء، فكم من أبرياء دخلوا السجون بسبب شهادة زور، وكم ضاعت حقوق بسبب شهادة زور، ولذا يجب على كل مسلم أن يتذكر ويتدبر قول الحق سبحانه: «يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً».
0 تعليق
اتبع التعليمات لاضافة تعليق