رغم تكرار الدعوات الصادرة من هنا وهناك بضرورة وسرعة اتخاذ وسائل فاعلة لتجديد الخطاب الديني فإن الخطاب السائد في مؤسسات الدعوة والتعليم والثقافة الدينية لا يزال بعيداً عن روح العصر وتحدياته، وهو ما يفرض علينا طرح سؤال مهم على نخبة من كبار العلماء والمفكرين عن كيفية تحقيق هذا التجديد لخطابنا الديني في أرجاء عالمنا العربي والإسلامي.
في البداية يؤكد مفتي مصر الدكتور شوقي علام أن تجديد الخطاب الديني أصبح مطلباً ملحّاً في بلادنا العربية والإسلامية، كما أن التجديد سنة من سنن الكون، وضرورة من ضرورات العصر التي لا غنى عنها، وذلك مصداقاً لقول نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها».
والتجديد في أمور الدين - كما يقول د. علام - يتوقف على فهم الواقع والتعرف على سلبياته ومحاولة علاجها، وردّ الناس إلى المنهج الصحيح من خلال استخدام الحجة الدينية في الحكم على ما يستجد للمسلمين في حياتهم المعاصرة، مؤكداً أن هذا التجديد في الخطاب الديني هو تجديد في الآليات والوسائل بعيداً عن المساس بالثوابت المتمثلة في القرآن الكريم وسنّة النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك عن طريق الفهم الجديد القويم للنص.
خطاب بنائي
ويؤكد مفتي مصر أننا في حاجة ماسة إلى خطاب ديني «بنائي» وليس خطاباً إنشائياً، خطاب يدفع حركة المجتمع عبر الفرز بين قيم التحلي وقيم التخلي، وإدراك سنن التغيير الحضاري، بحيث يعيد للإنسان دوره وفاعليته وحضوره في حركة المجتمع، خطاب ينبع أولاً من طبيعة الإسلام، الذي ينطوي على دعوة مستمرة إلى التجديد، وفي الوقت نفسه يستجيب للتطلعات المشروعة للشعوب العربية والإسلامية في الحرية والتقدم وتحقيق الشهود الحضاري.
ومن هنا يؤكد د. علام أن هذا الخطاب الديني العصري يفرض على دعاة الإسلام أن ينتقلوا من ضيق الرأي إلى سعة الشريعة ومقاصدها، ومن الارتجالية إلى العمل والدراسة والبحث والتحري، فالخطاب الديني الواعي ليس بالعمل العشوائي أو الارتجالي، إنما هو عمل مبني على برنامج فكري شامل ومتكامل.
ويرى د. علام أن تجديد الخطاب الديني يتطلب نزع القداسة عن التراث الإسلامي، خاصة ما يتعلق باجتهادات العلماء والفقهاء في كل العصور، مؤكداً أنه لا قداسة لغير الكتاب والسنة الصحيحة، ويقول: علينا أن نستفيد من التراث الفكري والفقهي باعتباره عملاً تراكمياً محترماً، ولكنه ليس مقدساً، بمعنى أننا نستفيد من مناهج السلف الصالح فيه؛ لأنها مبنية على اللغة والعقل وقواعد تفسير النصوص، ولكن في الوقت نفسه لا نلتزم بمسائلهم التي ارتبطت بسياق واقعهم وقتها، مع تنقية هذا التراث العظيم من كل ما هو دخيل وغريب عنه من دون انتقاص لهذا المجهود الكبير وغير المسبوق.
مواجهة الفكر المتشدد
ويشير مفتي مصر إلى أن من أهم القضايا التي يجب الالتفات إليها وبيانها عند تجديد الخطاب الديني: تحديد القضايا التي استند إليها الفكر المتشدد في تصدير الوجه الدموي المفتري على الإسلام والمسلمين في الداخل والخارج، مثل قضية الجهاد بمفهومه الصحيح معتبراً أن قضية التكفير التي جعلها المتشددون كل همهم وغاية مرادهم، هي على العكس تماماً مما تدعو إليه حقائق الإسلام، فالله سبحانه وتعالى يقول: «لا إكراه في الدين»، ويقول: «فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر».
ويرفض د. علام أن يتحدث في أمور الدين المتسلقون والمتطفلون بدعوى التجديد والتطوير، مؤكداً ضرورة احترام المرجعية الإسلامية، وترك الحديث في أمور الدين لأهل الاختصاص، كلٌ في علمه وفنه، تحقيقاً لقول الله تعالى: «فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون».
وعن فقه الإفتاء في الخطاب الديني الجديد يؤكد مفتي مصر أن الخطاب الفقهي يجب أن ينتهج منهج التيسير وهو منهج الإسلام الصحيح من دون أن يتخذ ذلك مدخلاً للمساس بالثوابت الشرعية.
فهم الواقع
المفكر الإسلامي د. محمود حمدي زقزوق رئيس مركز الحوار الديني والفكري بالأزهر وعضو هيئة كبار العلماء، يؤكد أن الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني يجب أن تكون دعوة متجددة وغير مرهونة بظاهرة انتشار وتمدد الفكر المتطرف الذي أصبح يمثل خطراً بالغاً على واقع ومستقبل مجتمعاتنا العربية والإسلامية ذلك أن التجديد سنة الحياة، والتغيير قانون الوجود، ولا يوجد شيء مخلوق يظل على حاله إلى الأبد، والبديل للتجديد هو الجمود، والجمود يعني أننا ننتمي إلى دين جامد، وهذا أمر مستحيل، فالإسلام بطبيعته دين يتماشى مع سنن الحياة، ولا يصادم الفطرة الإنسانية، ومن هنا فهو يشجع ويدعم ويقود التجديد المستمر لحركة الحياة والمجتمع من أجل الوصول إلى الأفضل في جميع المجالات وليس مجال الفكر الإسلامي فحسب.
ولذلك فإن التجديد في الخطاب الديني ينبغي أن يكون مرتبطا ومنسجما ومتوافقا مع التجديد في المجالات الأخرى، كما أنه لا ينبغي أن يكون أمرا عشوائيا، وإنما هو تجديد يتوقف على فهم الواقع من أجل الكشف عما فيه من سلبيات للانطلاق من ذلك الفهم إلى تصحيح الأوضاع.
تجديد الفقه الإسلامي
ويشير رئيس مركز الحوار بالأزهر إلى أن أبرز مجالات الثقافة والفكر الإسلامي التي تحتاج إلى تجديد الآن هي«الفقه الإسلامي»، موضحا أن مهمة الفقه مواجهة متطلبات الحياة المتجددة، ومادامت المسائل الفقهية غير قطعية فهي قابلة بحكم الشرع للتجديد والتغيير، وهذا التغيير الذي يطرأ على الأحكام الفقهية، التي هي محل اجتهاد شيء طبيعي يتماشى مع روح تعاليم الإسلام التي تتسم بالتيسير ورفع الحرج، وفضلاً عن ذلك فإن هناك مسائل جديدة لم يعرفها علماء الفقه الإسلامي السابقون تتطلب اجتهادا جديدا وبحثا عميقا لاستنباط الحكم الشرعي الذي ينطبق عليها، فإنزال الفقه على الواقع ضرورة لتطوير الحياة الإسلامية، فالفقه الإسلامي أصبح مطالبا الآن بالبحث عن حلول لمشكلات كثيرة تواجه الإنسان المسلم، وتسبب له حرجا وعنتا في كثير من الأمور الحياتية.
وهنا ينبه د. زقزوق إلى أن الدعوة إلى تجديد الفقه ليست تخليا عن الدين، ولا خروجا على أحكامه المعلومة من الدين بالضرورة، وإنما تعني إعادة النظر في الموروث الفقهي البشري من ناحية، ومن ناحية أخرى البحث عن الحلول الإسلامية لما جدّ ويجدّ مستقبلا من مسائل جديدة.. وعلى المتحفظين على التجديد والذين يرون فيه مساسا بالثوابت وخروجا على حقائق الإسلام أن يدركوا أن الشريعة الإسلامية تحمل من المرونة والسعة ما يجعلها تعيش حالة تجديد مستمرة تتجاوب دائما مع مصالح الناس في كل زمان ومكان.
مسؤولية العلماء والدعاة
العالم الأزهري د. محمد مختار جمعة وزير الأوقاف المصري يؤكد أن تجديد الخطاب الديني ضرورة تفرضها تطورات العصر، ويتفق مع د. زقزوق في أن الدعوة للتجديد والتطوير لا ينبغي أن تكون تحت ضغط الجماعات المتطرفة والتكفيرية التي ارتفعت أصواتها في بلادنا العربية والإسلامية خلال السنوات الأخيرة، ويقول: موجات التطرف والتشدد الديني خطيرة لا خلاف على ذلك، لكننا على ثقة من أنها سوف تنحسر حتما خلال السنوات المقبلة، فالمواطن العربي ينحاز دائما للاعتدال والوسطية والتسامح الديني وجهود العلماء والدعاة متواصلة في كل المجتمعات العربية لمواجهة المتطرفين والمتشددين وكشف باطلهم للجماهير العربية، لكن الجهود الدعوية تحتاج إلى تطوير، والخطاب يحتاج إلى تجديد، والتراث الديني يحتاج إلى تنقية وغربلة حقيقية لا إلى وعود وشعارات لا تغير شيئا على أرض الواقع.
ويرى د. جمعة أن إنقاذ شبابنا من براثن التطرف الديني يتطلب جهودا مضاعفة من العلماء والمفكرين والدعاة وخطباء المساجد لكي يسود الخطاب الديني المستنير بين المسلمين، ويقول: جهودنا كمؤسسات دينية دعوية وإفتائية وثقافية وتعليمية يجب أن تتضاعف لمواجهة الخارجين على سماحة الإسلام واعتداله، لاستعادة الخطاب الديني الوسطي المعتدل وكشف تجار الدين وطلاب السلطة، الذين شوهوا خطابنا الديني بجنوحهم نحو التشدد والتطرف.
0 تعليق
اتبع التعليمات لاضافة تعليق